(طعم الثورة بقي ماسخ!!!) كان هذا هو التعليق الذي كتبه أحد الأصدقاء قبل أسبوعين. ووجدتني أغضب منه، بسبب حواراتنا السابقة حول ضرورة زرع التفاؤل، وقيمته كسلاح سياسي. ليس التفاؤل الكاذب بالطبع، إنما التفاؤل المبني علي حقائق وإمكانيات واضحة. والتركيز علي انتصارات شعبنا وطاقته الجديدة المولودة يوم ٢٥ يناير، وتوضيح أن هذه الانتصارات وهذه الطاقة هي سلاح هذا الشعب الأساسي، الذي يجب أن يكون واعيا بامتلاكه، علي الدوام، وواعيا بإمكانياته كشعب بأنه (يريد ويستطيع
هذه الطاقة التفاؤلية هي في تناقض مع هذا النوع من التعليقات، التي حاول الكثيرون منا ألا ينزلقوا إليها في لحظات المرارة. إلا أنه، وبعد دقائق من بداية المواجهات ما بين أهالي الشهداء والشباب المصري من جانب، والشرطة من جانب آخر، أمام مسرح البالون، مساء يوم ٢٨ يونيو، أحسست بأن الطعم ماسخ فعلا، وبأنه إن لم نتحرك الآن ونواجه بحسم، فإننا سنخسر ثورتنا نهائيا. مرة أخري، ولن تكون أخيرة، جاء رد الشعب المصري، الذي لم يتأخر سوي دقائق. قام هذا الشعب بالرد علي مقولة (طعم الثورة بقي ماسخ)، مؤكدا أن طعم الثورة صعب، شاق، يتطلب التضحيات، لكنه ضروري من أجل حريتنا.
في إحدى المقالات السابقة انتهيت بتساؤل مفتوح، ودون إجابة، حول: (من سيكون في صفوف ثورة الفقراء القادمة ومن سيؤيد إطلاق الرصاص عليهم). نعلم جميعا أن أي رصاصة أطلقت أو ستطلق علي مواطن مصري في الفترة الحالية، مسؤول عنها مباشرة المجلس العسكري، الذي يحكم، وإلا من سيكون المسؤول؟ لن أجيب مرة أخري علي التساؤل، فقط سأحاول رصد ما أراه كأطراف أربعة أساسية متواجدة الآن علي الساحة المصرية، نقاط قوتها وضعفها، باختصار وبشكل سريع، ودون الكثير من التعمق:
أولا: الكتلة الأساسية للسلطة. أي الكتلة التي تضم الجيش، بواقي نظام مبارك وحكومة شرف. نقطة القوة الأساسية هي امتلاكهم للسلطة في حد ذاتها، وللبندقية، سواء كانت هذه البندقية في يد البلطجية، الشرطة، أو عساكر الجيش. بالإضافة للاعتراف الدولي الرسمي، والمشبوه، بهذه السلطة باعتبارها سلطة انتقالية باتجاه النظام الديمقراطي. إلا أن نقطة الضعف هي الارتباك السياسي الكامل، ووعينا بأنها ليست سلطة انتقالية ديمقراطية، وانتماء قيادات هذه الكتلة لنظام المخلوع، وكون أغلب جنود الجيش هم من الفقراء، المشكوك في أن يطلقوا النار (علي ولاد حتتهم) بالبلدي. دون نسيان عقدة الهزيمة، مرارتها، ولعنتها التي منيت بها الشرطة خلال الأيام الأولي من ثورة يناير، وستلاحقها لأعوام طويلة.
ثانيا: قوي المال والنفوذ. المال وسيطرته علي القطاع الحاسم من الإعلام المصري هو مساحة القوة. إلا أن ضعف هذا الطرف يتمثل في كونه نوعا من الرأسمالية شديدة التشوه، يعلم الجميع مدي فسادها، حتي وإن قدمت المشاريع الخيرية. نقطة ضعفها أيضا تتمثل في كونها لم تتمكن من حماية مبارك، ومنيت بالهزيمة معه. دون إغفال الوعي الإجتماعي (المسمي ابتذالا بالاحتجاجات الفئوية) التي تتصاعد وسيكون لها انتصارات واضحة.
ثالثا: الدينيون علي مختلف تنويعاتهم. مساحة قوتهم – بالإضافة للتنظيم – هو الاحتماء بالإسلام (قال الله وقال الرسول). إلا أن نقطة الضعف بدأت في الوضوح التدريجي، وهي اكتشاف الشارع – المدينة – شيئا فشيئا لزيف الخطاب. وبالطبع نستطيع إضافة حالة الانقسام الحاصل في صفوف هذه الكتلة حول المشروع الديني وملامحه الأساسية. وبداية التباعد، وربما القطيعة، ما بين شباب الإخوان والقيادة التقليدية، الانتهازية بالمعني السياسي، التي لا تفهم سوي الطاعة كقيمة.
هذه الأطراف الثلاثة لا تعيش تناقضا حقيقيا فيما بينها، في هذه المرحلة. بل إنها في حالة من حالات التحالف المؤقت، وإن كان هشا، ضد الطرف الرابع. ما هو هذا الطرف الرابع؟
الفقراء هم هذا الطرف الرابع… اللاعب الأساسي، الذي أسقط مبارك، كسر حاجز الخوف، ويطمح في حياة أفضل وأكثر عدلا. هذه هي نقاط القوة التي تملكها الأغلبية المصرية حاليا. بالإضافة إلي وعيها بأن الحقوق تنتزع عبر الشارع. يضاف إلي هذا الطرف قوي سياسية متنوعة، ديمقراطية، تقدمية، ويسارية، تريد استكمال هذه الثورة. إلا أن مساحة الضعف تتمثل في غياب المشروع السياسي الواضح، الذي يعبر عن مصالح هذه الطبقات الفقيرة. بالرغم من وجود توازن إيجابي بدرجة ما، وهو العقل الجمعي، الذي ولد مع يناير. ننساه أحيانا، إلا أنه يظهر من حين إلي آخر ليقول بأنه موجود، وقادر علي القيادة المؤقتة.
القطاع الغالب من الشعب المصري يعي أن مشروع السلطة الحالية – الأطراف الثلاثة الأولي – هو إنهاء وإجهاض ثورته، عبر إرهاقه واستنزافه تدريجيا. علي سبيل المثال، هذا الشعب لديه يقين بأن مبارك، وأبناءه، والعادلي لن يعودوا للسلطة. يعلم أن الجنرالات ليس لديهم حب خاص تجاه الرئيس المخلوع. بالرغم من هذا ليس هناك أي جدية في المحاكمة والحساب، سواء لمبارك أو غيره!!! فمشروع السلطة الحالية، ولنقل مهمتها، هي ومستشاريها الأمريكان، تتلخص في أن يعود الناس لمنازلهم دون أي انتصار، بمرارة الهزيمة، وبشعور الخيبة: (حتي اللي قتلوا ولادنا معرفناش نحاكمهم!!!). هذه المرارة من الهزيمة، قادرة علي إقعادنا، وشل قدراتنا لعقود قادمة.
إلا أن الإمكانيات الخاصة التي يملكها هذا العقل الجمعي، تظهر للعيان في اللحظة المناسبة، ممزوجة بحالة خاصة من الإصرار والكبرياء. ولنتأمل فقط هذا التراتب في الأحداث خلال ساعات قليلة: (من أمام مسرح البالون، إلي وزارة الداخلية، إلي ميدان التحرير واحتلاله من جديد). ليس هناك داع هنا لتكرار الشعارات التي رفعت مساء يوم ٢٨ يونيو، حتي لا أعرض نفسي لخطر المجلس العسكري!!! فالجميع يعلم ما تم هتافه في التحرير، وما يعنيه.
سيادة المشير: لن تكون عبد الناصر. لن أقارن بينك وبين عبد الناصر. لكن، لم ينتم عبد الناصر أبدا للنظام الفاسد قبل ١٩٥٢. عبد الناصر كان ضابطا صغيرا وليس جنرالا. عبد الناصر كان صاحب مشروع ثوري ووطني، رغم الخلاف حول ماهية هذا المشروع وأسباب فشله. أدرك منذ الفترة الأولي لثورته – التي صنعها ولم يركبها – قدرته علي دخول التاريخ من بوابة المشروع النهضوي القومي. عبد الناصر يعني شعبيا الكرامة، الصلابة، والانتماء للفقراء.
لكن الأهم سيادة المشير هو أن التاريخ لا يعود للوراء، لسنا في الخمسينيات، ولا نحتاج لعبد الناصر جديد. وهو غير متاح أصلا.
ثورة يناير الشعبية لديها القدرة علي الاستمرار وتحقيق الانتصار الحاسم. الشعب لا يريد وفقط، بل هو يريد ويستطيع ويقدر. يستطيع أن “يكنس” من أمامه من يعوقون مسيرته، ويعرف متي يمنح أو يمنع إمكانيات “الخروج الآمن” من السلطة، لكل من انتمي للنظام القديم، ولكل من يحاول إيقاف عقارب الساعة عن الدوران والتقدم للأمام. وها هو الشعب يعلمنا من جديد أنه لا يتوقف عن إنجاب العشرات من ميادين التحرير.
باسل رمسيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق